نورا حطيط –
يتمتع لبنان بمكانة سياحية هامة نظراً لموقعه الجغرافي وسط العالم القديم مما جعله مركزاً للعديد من الحضارات التي تركت بصمتها في كل حجر من حجارته حتى في أسماء قراه ومدنه. تجدر الإشارة الى عدم اقتصار مناطق لبنان السياحية ذات أصل تسمية سريانية على ما ورد أعلاه إذ لا يزال هناك المزيد من المناطق التي تُنسب أسمائها للسريانية موزعة على محافظات لبنان الثمانية.
لبنان … ذاك البلد الصغير الغني بالتاريخ والإرث الحضاري. في هواه تسكن حكايا لحضارات تعاقبت على أرضه؛ وأورثته كنزٌ فكري٬ ثقافي٬ سياحي٬ فني واقتصادي. وفي بيوته تتناثر بقايا كلمات سريانية. فبحسب الضالع في اللغة السريانية٬ إيليا عيسى٬ أغلبية مفرداتنا وتعابيرنا ليست عربية، بل تحريف لكلمات سريانية وآرامية قديمة. ولعلَّ الكثير من اللبنانيين، لا يدركون أصل تسمية أشهر مناطق لبنان السياحية. إذ قد يُؤسَر البعض في طبيعته الخلابة ومعالمه الأثرية السياحية٬ دون التوقف والتفكير في أصل تسمية بعض مناطقه باللغة السريانية. في ما يلي سنتوقف عند ٨ مناطق في أربع محافظات لإسدال الستار عن أصل تسميتهم ونستعرض كيف اكتسبت هذه التسمية.
لا بدَّ أولاً من التعرف على السريان.
من هم السريان؟
هم أبناء هذه الأرض، أصيلون فيها … يكفي أن لبنان هو “قلب الله” في لغتنا.
حبيب افرام
إنّ الحديث عن السريان مرتبط بتاريخ منطقة الهلال الخصيب التي تمتد من خليج البصرة حتى غزة عند حدود سيناء. منذ الألف الأول قبل الميلاد بدأت تسود المنطقة لهجة سامية جديدة سُميت بـ”الآرامية” نسبةً لقبائل شمال الرافدين القاطنة في المناطق المرتفعة. يُقال أن اسم “الآراميين” مشتق من ““أور رمثا” أي الأرض المرتفعة. مثّلت اللغة الآرامية خلاصة جميع اللغات السامية السابقة من البابلية٬ الآشورية٬ الكنعانية وغيرها. لذلك تمكنت من أن تسود “المشرق” حتى أصبحت لغة الثقافة الأولى وسُمي جميع سكان المنطقة بالآراميين. حلّت اللغة السريانية محل الآرمية بعد مجيء الإغريق وأصبحت اللغة الفصحى لجميع الكنائس المسيحية والمانوية البابلية في كافة منطقة المشرق.
بالنسبة لرئيس الرابطة السريانية في لبنان٬ حبيب افرام٬ “السريان شعب وهوية وتراث. ولغة وكنائس وعقيدة وفكر وتاريخ متجذر في هذا الشرق. هم أبناء هذه الأرض، أصيلون فيها، جزء من تنوّعها وتعددها القومي والإثني والديني والمذهبي. اللغة السريانية هي من علاماته، مقدسّة لأن السيّد المسيح تكلّم فيها في تجسّده. وكانت اللغة المحكية لغة لسان لهذه المنطقة لعصور، وأعطت روحها لكل هذه المدن والقرى والأنهار في الشرق. يكفي أن لبنان هو “قلب الله” في لغتنا.”
فلنتعرف الآن على بعض مناطق لبنان السياحية التي تعود أصل تسميتها الى اللغة السريانية في ٤ من محافظات لبنان.
مناطق لبنان السياحية في محافظة الشمال:
يزخر شمال لبنان بمعالم سياحية يغلب على بعضها الطابع التاريخي مما جعله مقصداً للسياح من كافة الأقطاب المحلية والدولية. كما وتتميز القرى والمناطق السياحية في شمال لبنان بتعدد جمالها الطبوغرافي، سواء من مشاهدها الجبلية٬ مساحاتها الخضراء، أو أنهارها وبحيراتها. نذكر من المناطق التي اكتسبت إسمها من اللغة السريانية:
١- تنورين
تقع تنورين في أعالي قضاء البترون وتقسم الى قسمين: الفوقى والتحتى؛ التي تعكس الماضي العريق في آثارها الفينيقية٬ الصليبية٬ اليونانية والرومانية المنبسطة على أرضها وبين أديرتها٬ كنائسها وبيوتها. كما تتميز بمغاوير و”بواليع” تسحر العقول والعيون.
أصل التسمية: إنَّ لفظة تنورين مشتقة من الكلمة السريانية “تنورو” أي تنّور في صيغة الجمع. وتعني في قسمها الأول “تان” الدخان وفي قسمها الثاني “نور” النار أو النور. يقال أن الإسم الأصلي لهذه المنطقة اللبنانية السياحية هو “بيت نورا” أي مكان النار أو مكان النور.
كما تضمّ تنورين عدة قرى صغيرة والتي أيضاً تُنسب تسميتها للغة السريانية مثل حوب ووطى حوب. فكلمة “حوب” تعني الحب بالسريانية٬ أما كلمة “وطى” فتدل على الأرض المنخفضة.
تمتاز البلدة بتعدد معالمها السياحية٬ أشهرها:
- بالوع بعتارة والمعروف ب”بالوع الثلاثة جسور”
- محمية غابة أرز تنورين
مناطق لبنان السياحية في محافظة عكار
١- القبيات
تقبع في محافظة عكار احدى مناطق لبنان السياحية الصاعدة والتي تتجذر تسميتها في اللغة السريانية الا وهي٬ القبيات. مفردها “قبا” (ܩܒܳܐ) او “قيبيا” (ܩܶܒܝܳܐ) وتعني تجميع المياه نظراً لاحتوائها على ثروة هائلة من المستنقعات وخزانات المياه.
من الأماكن التي يمكن زيارتها فيها:
- وادي حلسبان
- مخيم بلوط (Balloot Camping Site) في وادي حلسبان
- دير مار شليطا
- أماكن أخرى
مناطق لبنان السياحية في محافظة جبل لبنان
من علامات الحقيقة، لا يمكن النكران، أشير فقط الى كتاب أنيس فريحة “أسماء المدن
حبيب افرام
“والقرى اللبنانية وتفسير معانيها: دراسة لغوية” الصادر عام 1956. وكتاب إيليا عيسى “قاموس الألفاظ السريانية في العاميّة اللبناني.
التفسير الوحيد أن السريان أصيلون في الشرق، أنّ لغتهم كانت هي الرائدة والرائجة والمحكية والرسمية.
من المثير للاهتمام معرفة أن لفظة “جبل لبنان” مشتقة من الكلمة السريانية “تور ليفنون” (Tur Levnon) و”تور” تعني جبل. لذلك٬ فإن “تور ليفنون” هو جبل لبنان والذي يعني الجبل الأبيض. كما قد يُكتب “تور ليفانون” (Tur Levanon) ويعني جبل البخور.
علّق حبيب افرام٬ رئيس الرابطة السريانية في لبنان٬ عن سبب كثرة مناطق لبنان السياحية التي تتجذر أصل تسميتها من اللغة السريانية٬ بما في ذلك إسم “جبل لبنان”: “من علامات الحقيقة، لا يمكن النكران، أشير فقط الى كتاب أنيس فريحة “أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها: دراسة لغوية ” – الصادر عام 1956. وكتاب إيليا عيسى “قاموس الألفاظ السريانية في العاميّة اللبنانية”. التفسير الوحيد أن السريان أصيلون في الشرق، أنّ لغتهم كانت هي الرائدة والرائجة والمحكية والرسمية.”
تُعتبر محافظة جبل لبنان مقصد هواة المغامرات نظراً لجبالها العالية وتضاريسها الصخرية الوعرة التي توفر إمكانية ممارسة مجموعة متنوعة من الرياضة الخارجية كالتزلج٬ التسلق٬ الهبوط بالمظلات٬ القفز الحر وغيرها من أنشطة. نذكر من المناطق التي اكتسبت إسمها من اللغة السريانية:
١- كفرذبيان
تقبع في هذه المحافظة احدى أشهر مناطق لبنان السياحية والأكثر ارتياداً في الشتاء والتي تُنسب تسميتها الى اللغة السريانية الا وهي٬ كفرذبيان. يُرجح أن إسم بلدة كفرذبيان السرياني هو “كفرتبيوني” تنقسم كفرذبيان إلى قسمين: “كفر” وتعني قرية صغيرة و”ذبيان” وتعني الغزلان. وبالتالي فإن كفرذبيان هي قرية الغزلان.
بالإضافة لكونها مقصداً لممارسي الأنشطة الرياضية٬ يرتادها البعض لزيارة بلدة فقرا التي تُعَد مركزاً سياحياً على مدار السنة. تعود آثارها إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية وتضم حصن٬ مذبح٬ مدفن٬ كنيسة ومعبد.
٢- رشمايا
رشمايا … من مناطق لبنان السياحية التي تعود تسميتها لأصل سرياني. تُقسَم لفظة رشمايا في اللغة السريانية الى: “رش” والأصح “ريش” أي رأس والى “مايا” أو “مايو” أي ماء وبذلك تعني رأس الماء أو رأس النبع.
تتميز بطابع تراثي٬ ديني وطبيعي آسر.
٣- فالوغا
تعتبر من أهم مصايف جبل لبنان وتعود تسميتها للكلمة السريانية “بالوغا” أي الموزع او المقسم نظراً لانقسامها شمالاً وجنوباً بسبب مرور أحد روافد نهر بيروت فيها. تحتضن أراضيها مساحات شاسعة من أشجار الصنوبر والسنديان، وبساتين التفاح والكرمة. كما تتميز بالينابيع٬ العيون والبرك الطبيعية والاصطناعية لري المزروعات. فضلاً عن مكانتها التاريخية المرموقة الموثّقة ببقايا كنيسة قديمة على قمّة جبل الكنَيْسة، وبقايا قلعة رومانية في جرودها وغيرها. وكونها أول منطقة تمّ رفع العلم اللبناني فيها بدلاً من العلم الفرنسي في محمية أرزها.
٤- برمانا
على ارتفاع ٧٥٠م عن سطح البحر٬ تقع بلدة من أشهر مناطق لبنان السياحية والتي تمتاز بطقسها العليل في فصل الصيف والبارد في الشتاء. بالإضافة لتحلّيها بلوحات طبيعية خلابة تظلّل شوارعها التي تزينها بيوت عريقة متوّجة بالقرميد؛ إنها برمانا.
أصل التسمية: سرياني. تنقسم برمانا إلى “ب” و “رومانا” (أو “رومونو” مشتقة من السريانية). عادةً في اللغة السريانية، الكلمة التي تبدأ بحرف “ب” أو “بيت”(Beit) تعني “مكان” أو “قرية”. ويقال أنّ رومونو هو إله العواصف والرعد ويُرمَز إليه بفاكهة الرمان. فإذن، “برمانا” تعني بيت رومونو.
من الأماكن التي يمكن زيارتها في برمانا:
- التجول في شوارعها والاستمتاع بجمالها المعماري
- الإستلذاذ بالمأكولات اللبنانية
- الإرتماء في أحضان الطبيعة بعيداً عن ضغط المدينة
مناطق لبنانية سياحية في محافظة الجنوب
يمتاز جنوب لبنان بقلاعه٬ أسواقه التراثية وطبيعته المتنوعة التي تجمع بين الشواطئ الرملية والصخرية والجبال الشاهقة والغابات والمحميات. كما تتنوع أصل تسمية مدنه وقراه بين الفينيقية والعربية والسرياني. من أبرز أسماء مناطق لبنان السياحية من أصل سرياني في هذه المحافظة:
١- جزين
“مصيف العرب”، “عروس الشلال”، “عروس الجنوب” و”عروس المصايف”٬ ألقاب أُطلقت على جزين. تُعد الأخيرة تحريف عن الكلمة السريانية “جَزين” (Gazzin) وتعني مخازن أو خزائن. تُعتبر من إحدى الوجهات السياحية المقصودة على مدار السنة إذ يستمتع اللبنانيون والسواح الأجانب بكافة معالمها ومناظرها الطبيعية٬ نذكر منها:
- قصر د.فادي سرحال
- شلالات وينابيع
٢- بكاسين
أصل التسمية: آرامي سرياني من “بيت كاسين” وتعني “قرية المُختَفين” أو “قرية المُختبئين”.
تقبع بكاسين في قضاء جزين قُبالة وادي جزين ومرج بسري. تُعَد من أكبر وإحدى أجمل غابات الصنوبر في الشرق الأوسط٬ نظراً لتميزها بسحر ساحتها المركزية٬ وأزقتها الضيقة٬ سوقها الصغير ومنازلها العتيقة القرميدية. أما من ناحية ثروتها الطبيعية٬ فبكاسين غنية بأشجار الزيتون وتُعتبر من إحدى أفضل المنتجات الزيتية في المنطقة.
من المعالم التي يجب زيارتها في بكاسين:
كما رأينا٬ إنّ غالبية مناطق لبنان السياحية ما زالت تحتفظ باسمها السرياني ولو بطريقة محرّفة. فما أسباب انطفاء شمعة الثقافة السريانية؟
ما الأسباب أو السبب الرئيسي لإنطفاء شمعة السريان؟
تميّز السريان في الأدب٬ اللاهوت٬ الترجمة٬ العلوم٬ الشعر والعمران. فضلاً عن المدائح والسيّر والمعاجم وحتى التنجيم. الاّ أن شعلتهم أخذت بالإنطفاء بعد الغزو المغولي للعراق والمشرق وسقوط بغداد. ولعلّ أقساها عرف ب” “سيفو” أي السيف وهي المذابح التي إرتكبتها الدولة العثمانية بقرار رسميّ ضدّ مسيحييها؛ خاصةً الأرمن والسريان والآشورين والكلدان في أوائل القرن الماضي عام ١٩١٥. ثم آخرها ما إقترفته “داعش وأخواتها” من إقتلاع مبرمج لشعبنا في كل من العراق وسوريا” بحسب حبيب افرام.
زيادة الوعي حول الثقافة السريانية
من سبل النضال لزيادة الوعي حول الثقافة السريانية هو الإعتراف بالتاريخ أولاً. و “أن نقرأ و نتعلّم، وأنّ لا تحتلّنا التفاهة، ولا الأحادية ولا الإلغائية. آلاف الكتب متوفرة وبكل اللغات، خاصةً في هذه القرية الكونية التي إسمها “الأرض”. عندنا في “مركزنا الثقافي” أكثر من عشرين ألف كتاب عن الشرق والهويّة والتنوّع. ونحن لسنا إلاّ نقطة في بحر العلوم”٬ هكذا صرّح حبيب افرام.
في الختام
هل يمكن أن يصبح ويبقى لبنان وطناً مميزاً وحراً، حاضناً للديانتين المسيحية والاسلامية بتعدد طوائفهم؟
يرى حبيب افرام بأنّ هذا جوهر قضية الشرق ولبنان٬ فعلّق: “هل ينتصر الإرهاب والإلغاء و التكفير والأحادية والتسلّط والدكتاتورية والرأي الواحد والقائد الواحد والدين الواحد والمذهب
الواحد؟ أم ينتشر فكر الحريات وكرامة كل إنسان وكل جماعة في قبول عميق حقيقي للتنوّع والتعدد على قاعدة المساواة والمشاركة؟”
كما أضاف “لبنان أعمق من إحتضان ديانتين. هو سطوع الحرية كمبدأ أساسي والإنسان كهدف أسمى. هذا طموحنا وعقيدتنا في لبنان. لكن هوّة خطيرة تكمن بين الرواية والواقع، بين كلام معسول وممارسات جعلت الهوية جثة وسرقت الناس كل الناس.”
أما زال بعد من أمل و رجاء؟
حبيب افرام
التاريخ يحكم وإرادة اللبنانيين.
محتوى جداً رائع و زاخر بالمعلومات
معلومات تاريخية قيمة. قلب الله سيبقى ينبض لأنه يتغذى من دماء الشهداء عبر العصور، وعين الله ترعاه من الاعالي.